المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدرس الثالث عشر: مرتبة الإيمان (2/2)


هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 06:22 PM
الدرس الثالث عشر: مرتبة الإيمان (2/2)

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:


(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ
وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.
وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ الآية [البقرة:177].
وَدَلِيلُ الْقَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]).


عناصر الدرس:
· الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.
· الركن الثالث:الإيمان بالكتب
· الركن الرابع:الإيمان بالرسل.
· الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر.
· الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.

الركن الثاني: الإيمان بالملائكة
· الملائكة، جمع مَلَك، وأصله: مَألَك،، والألوكة والمألك والمألكة: الرسالة.
- قال عدي بن زيد:

أبلغ النعمان عني مألُكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
· أصل لفظ "الملك": "مألك"، ثم قُدِّمَت اللام ونقلت حركة الهمزة إليها فقيل: (مَلأك)، ثم قلبت الهمزة ألفاً للتسهيل فقيل: ملاك، وعلى الأصل قول الشاعر:
فلسْتَ لإنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَباركَ مَن فَوْق السّماواتِ مُرْسِلُهْ

· والإيمان بالملائكة أصل عظيم من أصول الإيمان، وله ثمرات عظيمة، وفوائد جليلة.
· قال ابن القيم رحمه الله: (لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا أو تلويحا أو إشارة وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر).
· وهم خَلْق من خلق الله تعالى، خلقهم الله من نور كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارجٍ من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)).
- المارج هو: لهب النار المختلط بسوادها، وسمي مارجاً لاضطرابه واختلاطه وخفّته.
· وقد وصف الله تعالى الملائكة في كتابه الكريم بأنهم ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26] خَلْقاً وَخُلُقاً، قد أكرمهم الله تعالى بمحبته وشرَّفهم بطاعته، وعصمهم من معصيته، فهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
· ووصفهم بأنهم ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾[الأنبياء: 19، 20]، لا يستحسرون أي لا ينقطعون عن عبادته من إعياء ولا ملل ولا ضعف.
· وهم متفاوتون في الخلق فمنهم من هو عظيم الخلقة جداً ومنهم من هو دون ذلك كما وصف الله تعالى تفاضلهم في الخلق في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فاطر: 1].
· وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح.
· وفي سنن أبي داوود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( أذن لي أن أحدّث عن مَلَكٍ من ملائكة الله تعالى من حَمَلَةِ العَرْشِ، ما بين شَحْمَةِ أذنه إلى عاتِقِهِ مسيرة سبعمائة سنة)).
· وهم خلق كثير لا يحصيهم إلا من خلقهم سبحانه وتعالى
· في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج أن (البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة).
· وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم إذ قال لهم:(( هل تسمعون ما أسمع؟))، قالوا: ما نسمع من شيء.
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (( إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)). رواه محمد بن نصر المروزي والطحاوي وابن أبي حاتم وابن أبي عاصم والطبراني وغيرهم كلهم من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم. وصححه الألباني.
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والبيهقي وتفسير البغوي من حديث إبراهيم بن المهاجر عن مجاهدٍ عن مورقٍ عن أبي ذر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) لوددت أني كنت شجرةً تعضد).
- (لوددت أني كنت شجرة تعضد) أي تُقْطَع، وقيل: يُنثر وَرَقُها، وهذا من كلام أبي ذر، كما بيَّن ذلك الحفاظ.
· وقد وكّلهم الله تعالى بأعمالٍ يعملونها، وهم حفيظون لأعمالهم قائمون بها على أتم وجه كما أمرهم الله؛ فمنهم الموكَّل بالوحي وهو جبريل عليه السلام، ومنهم الموكَّل بالقطر والنبات وهو ميكائيل، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومنهم ملائكة الرحمة، ومنهم ملائكة العذاب، ومنهم الموكل بالأرحام.
· ومنهم الكتبة الحافظين الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) ﴾ [الانفطار: 10-12]، وقد مكَّنهم الله تعالى من معرفة أعمال العبد كلها حتى ما يهمّ به قبل أن يتحدث به أو يعمل به كما دل عموم قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يقول الله: إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرة أمثالها فإن هم بالسيئة فعملها فاكتبوها واحدة وإن تركها فاكتبوها حسنة))رواه عبد الرزاق وأحمد والبخاري، وفي رواية عند أحمد ومسلم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه؛ فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حَسَنَةً، إِنَّما تركها من جَرَّاي)).
- من جراي: أي لأجلي.
· ومنهم الملائكة السياحون الذين يتتبَّعون مجالس الذكر.
· ومنهم ملائكة سياحون موكلون بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام من يسلّم عليه من أمته كما في مصنف ابن أبي شيبة وسنن النسائي وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)).
· ومنهم الحفظة الذين يحفظون العبد من الآفات التي قد لا يراها ولا يعلم بها فيصرفونها عنه ما لم يقدّر الله له شيئا من ذلك، ولو وَكَل الله تعالى الناسَ إلى أنفسهم لم يستطيعوا حفظ أنفسهم.
· وللملائكة أعمال كثيرة لا يحصيها إلا من خلقهم، وهم يحبّون ويبغضون؛ يحبون من يحبه الله، ويبغضون من يبغضه الله، ويستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم بخير، وقد ورد في فضائل بعض الأعمال أن الملائكة تدعو لأصحابها، كما ورد أنهم يدعون على بعض العصاة من أهل الكبائر، ويلعنون بعضهم.
· والمؤمنون يؤمنون بالله وملائكته كما أثنى الله تعالى عليهم بقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة: 285].
· والإيمان بالملائكة يكون بالتصديق بوجودهم وبأعمالهم وبما أخبر الله تعالى عنهم وأخبر به عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم لمحبة الله تعالى لهم بلا مجاوزة للحد؛ فلا يُرفعون فوق منزلتهم التي جعلها الله لهم ولا يُدعون من دون الله ولا يستشفع بهم ولا يصرف لهم أي نوع من أنواع العبادة.
· وأما المخالفون في الإيمان بالملائكة فهم أصناف ومن أشهرهم:
- الصنف الأول: الذين أنكروا وجود الملائكة، وهؤلاء هم الملاحدة، وكذلك بعض الذين لديهم نزعات إلحادية مع إقرارهم بوجود الله، لكنهم لا ينسبون إليه شيئاً، ويفسرون كل ما يحدث بالظواهر الطبيعية، حتى خلق الإنسان والأفلاك ينسبونه للطبيعة، فمن هؤلاء من يفسر الملائكة بقوى الخير والصفات النفسانية الحسنة في الإنسان، ويفسر الشياطينَ بقوى الشر والخصال الشريرة.
- الصنف الثاني: الفلاسفة القدماء الذين يعتقدون أن الملائكة هي التي تتصرّف في الكون وتدبّره، وهم لا يسمونهم الملائكة وإنما يسمونهم الأرواح والعقول المدبرة والنفوس الخيرة، ولذلك يجوّزون دعاء الأجرام العلوية من الكواكب السبعة وغيرها، ويزعمون أن من توجَّه إليها بالدعاء؛ فإن تلك الأرواح تتنزل عليه وتقضي حوائجه.
ولذلك يكون في كلامهم وكلام من يتلقى عنهم "روحانية عطارد" و"روحانية الزهرة" ونحو ذلك يجعلون للكواكب روحانيات ونفوساً مدبرة ومؤثرة ومتصرفة في بعض شؤون العالم، وهذا كفر بالله جل وعلا.
وهذه العقيدة تلقفها بعض السحرة الذين تعاطوا التنجيم، ولذلك يتقربون إلى الكواكب ويزعمون أنهم يخاطبون الملائكة؛ وهم في الحقيقة إنما يدعون الشياطين، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) ﴾ [سبأ: 40-42].
وهذا نظير ما يحصل لبعض عبَّاد الأصنام والأوثان فإنهم ربما دعوا بعض تلك المعبودات فخرجت عليهم بعض الشياطين متمثلة لهم على شكل بعض المخلوقات المرئية فتنة لهم.
- الصنف الثالث: الذين يبغضون بعض الملائكة ويعادونهم، ومن هؤلاء اليهود المغضوب عليهم الذين أعلنوا بغضهم لجبريل عليه والسلام وعداوتهم له، وفيهم نزل قول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) ﴾ [البقرة: 97، 98].
- الصنف الرابع: الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله، ولديهم اعتقادات أخرى كفريّة باطلة في الملائكة، ومن هؤلاء مشركو العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)﴾ [الأنبياء: 26-29]، قوله: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 15-22]، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً﴾ [الصافات: 158].
قال مجاهد وقتادة: قالت كفار قريش الملائكة بنات الله، وأنه تزوج من سروات الجن، والملائكة بناته منهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
- الصنف الخامس: الذين يدعون الملائكة من دون الله تعالى ويطلبون منهم الشفاعة وقضاء الحوائج وهذا كله من العبادة التي من صرفها لغير الله عز وجل فهو مشرك كافر؛ قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 79، 80].
· والمشركون يغرّ بعضهم بعضاً، ويلبسون على أنفسهم، ومنهم من يزعم أنه يدعو الملائكة وهو إنما يدعو الشياطين: كما قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبأ: 40، 41].
- وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) ﴾ [الإسراء: 56، 57].
قال ابن جرير: (وقيل: إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح)، هذا أحد الأقوال في تفسير الآية.
- وقال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم: 26].
- وقال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28].
- وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 22، 23].
· فالتوجه إلى غير الله تعالى بالدعاء وطلب الشفاعة شرك أكبر مخرج عن الملة والعياذ بالله؛ سواء أكان الدعاء لملك أم نبي أم ولي أم غيره.

الركن الثالث: الإيمان بالكتب
· المراد بالكتب: الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله عليهم السلام، ومنها صحف إبراهيم، والتوراة التي أنزلها الله على موسى، والزبور الذي أنزله على داوود والإنجيل الذي أنزله على عيسى، والقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وعلى أنبياء الله وسلم.
· فنؤمن بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بما أنزل على الأنبياء من قبله ما علمنا من ذلك وما لم نعلم، ونؤمن بأنها حق من عند الله جل وعلا.
· وقد أثنى الله تعالى على عباده المتقين بذلك في أول سورة البقرة فقال: ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾[البقرة: 1-5]
· وقد أمر الله تعالى نبيَّه بالإيمان بكتبه فقال: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: 15] من كتاب عام في جميع الكتب التي أنزلها الله تعالى.
- قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب، توراة كان أو إنجيلاً أو زبوراً أو صحفَ إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض).
· وأمر الله تعالى المؤمنين بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾[النساء: 136].
· فالإيمان بالكتب فرض واجب، وهو من أصول الإيمان العظيمة.
· واليهود والنصارى وقعوا في التكذيب ببعض الكتب وإنكار بعض ما جاء فيها، كما ذمهم الله تعالى بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 113].
· قال ابن كثير: (قال: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه).
· والكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله عليهم السلام جاءت بالأمر بتوحيد الله جل وعلا، والنهي عن الشرك، وكلُّ ما أخبر الله تعالى به فيها فهو حق وصدق.
· وأما الشعائر التعبدية فقد جعل الله لكل أمة شريعة يتعبدون بها لا تلزم غيرهم، إلا الشريعة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم وهي شريعة الإسلام فهي عامة لجميع المكلفين من الإنس والجنّ إلى قيام الساعة كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾[سبأ: 28]
وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف: 158].
· وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة))؛ فشريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع وهي عامة لجميع المكلفين.
· وقال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48]، قال ابن عباس: سبيلاً وسنة، وقال قتادة: الدين واحد والشريعة مختلفة.
- قال ابن جرير: (للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل).

الركن الرابع: الإيمان بالرسل
· الإيمان بالرسل أصل عظيم من أصول الإيمان؛ فهم الواسطة في تبليغ رسالات الله تعالى؛ وهم الذين بينوا للناس الهدى ودين الحق، أرسلهم الله تعالى رحمة بعباده:
- ليبلغوهم رسالات ربهم، ويرشدوهم إلى الصراط المستقيم المفضي إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم، ويبشروا بذلك من آمن بهم وأطاعهم واتبع سبيلهم.
- وليحذروا من أسباب سخط الله وعذابه.
- وليقيموا الحجة على الناس بالبلاغ، فمن بلغته الحجة وجب عليه الإيمان والاتباع، فإن كذَّب وتولى استحق العذاب الأليم، ولم تكن له حجة عند ربه.
· وقد جمع الله مقاصد إرسال الرسل الثلاثة في قوله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]؛ فإن الله تعالى لا يعذّب أحداً على مخالفة حتى تقوم عليه الحجة الرسالية كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].
· وقد أوجب الله تعالى على رسله البلاغ المبين وهو البيِّن الواضح الذي لا لبس فيه، فقال تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 35].
· وشهد الله تعالى لهم بأنهم أدوا ما أوجب الله عليهم فقال: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 38-40].
فشهد الله لأنبيائه بأنهم بلغوا رسالات ربهم البلاغ المبين.
· ولذلك أرسل الله تعالى كل رسول بلسان قومه ليبين لهم وجعل رسولهم منهم فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[إبراهيم: 4].
· وأعظم الرسل بياناً وأفصحهم لساناً وأحسنهم هدياً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، وهو اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن البيان الكامل الذي يحبه الله ويرضاه، والذي تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة فلا يزيغ عنها إلا هالك.
· والبيان الكامل يقتضي ثلاثة أمور متلازمة:
- الأمر الأول: العلم التام بكل ما يلزم بيانه.
- الأمر الثاني: النصح والأمانة.
- الأمر الثالث: الفصاحة في المنطق وحسن تبليغ الرسالة لمن أرسله الله إليهم.
· فمن قدح في أمر من هذه الأمور الثلاثة فقد قدح في بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
· ولو فَقِهَ أصحاب الأهواء هذا الأمر حق الفقه لسَلِمُوا من شر عظيم، وسلَّموا للنبي صلى الله عليه وسلم بحسن بيانه وكمال نصحه وبراعة فصاحته، ولم يدخلوا في حديثه متأولين محرفين زاعمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ظاهر ما يدلّ عليه كلامُه من أمورٍ كَبُرَ عليهم اعتقادها، حتى صرَّح بعضهم أن ظواهر النصوص غير مرادة، وأنه إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل، فارتكبوا بسبب ما زينه لهم الشيطان بدعاً عظيمة شنيعة، ولولا ما عَرَضَ لبعضهم من الشبه وما يعذر به بعضهم من الجهل في بعض المسائل لخرجوا من الدين بهذا الاعتقاد والعياذ بالله.
· ومن زعم أن الله تعالى لم يرسل رسولاً فهو كافر ظانّ بالله تعالى ظنَّ السوء زاعم أنَّ الله تعالى يترك عباده سدى، يخلقهم ويعبدون غيره، ويقرهم على ذلك!؛ قال الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾[القيامة: 36]، وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الزمر: 67]، وقال: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ﴾[غافر: 70-72].
- الكتاب اسم جنس فيعم جميع الكتب.
- والذي أرسل الله به الرسل هو دين الإسلام بمعناه الشرعي العام، وهو التوحيد.
· فالأنبياء دينهم واحد وهو الإسلام وشرائعهم شتى، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الأنبياء إخوة لعَلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد))،وفي رواية (( الأنبياء أبناء علات)).
- و(الإخوة لعلات) هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى.
· قال ابن القيم رحمه الله: (النبي شبَّه دين الأنبياء الذين اتفقوا عليه من التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه بالأب الواحد لاشتراك جميعهم فيه، وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم؛ فقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]؛ وقال البخاري في صحيحه: باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد وذكر هذا الحديث، وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف؛ فهي بمنزلة الأمهات الشتَّى)ا.هـ.
· وفي باب الإيمان بالرسل مسائل عظيمة ينبغي لطالب العلم أن يتفقَّه فيها.
· والمقصود هنا بيان أن الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، وأنه يجب علينا أن نؤمن بهم جميعاً ولا نفرق بين الله ورسله ولا نفرق بين أحد من رسل الله فنؤمن ببعض ونكفر ببعض؛ فمن كذَّب برسول منهم فقد كذب بهم جميعاً لأن دعوتهم واحدة وهي دين الإسلام وهم كلهم صادقون فيما يخبرون به عن ربهم جل وعلا فمن كذب أحداً منهم فقد كذَّبهم كلَّهم، وهو كافر حقاً لأنه لم يُسْلِمْ لله تعالى، ولم يسلّم لأمره بتصديق رسله عليهم السلام.
· قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) ﴾[النساء: 150-152].
· وأثنى الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ...﴾[البقرة: 285].

الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر
· الإيمان باليوم الآخر أصل عظيم من أصول الإيمان، من كذَّب به كفر، وسمّي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده في الدنيا، وفيه تقوم الساعة، فالمكذب به مكذّب بالساعة ومكذب بالبَعْث ومكذب بالحساب والجزاء، وهذه كلها أصول عظيمة من أصول الإيمان.
· هذا الأصل العظيم فيه مسائل عظيمة مبسوطة في كتب الاعتقاد، والمهم في هذه المرحلة معرفة هذه المباحث على سبيل الإجمال.
· ومن الإيمان باليوم الآخر:
- الإيمان بما يكون في البرزخ بين الحياة الدنيا والآخرة من عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقيام الناس لرب العالمين في يوم الفصل.
- والإيمان بالحوض والشفاعة ونصب الموازين ونشر الصحف ونصب الصراط ودخول الكفار والمنافقين وبعض أصحاب الكبائر من المسلمين في النار، ثم يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ويبقى الكفار والمنافقون النفاق الأكبر خالدين في نار جهنم لا يخفف عنهم العذاب وما هم منها بمخرجين، والعياذ بالله.
- ونؤمن بأن الجنة حق، وأن الله تعالى قد أعدَّها لعباده المؤمنين يدخلونها برحمته وفضله، وهم فيها خالدون، في النعيم المقيم الذي لا ينقطع ولا ينقص ولا يتكدَّر
- والجنة على درجات، والمؤمنون يتفاضلون فيها تفاضلاً عظيماً بحسب أعمالهم.
- والمؤمنون يرون ربهم عز وجل في عرصات القيامة وبعد ما يدخلون الجنة، ورؤية الله تعالى هي أعلى مراتب النعيم وأعظم الفضل وغاية المطالب عند المؤمنين الذين أخلصوا له الدين،نسأل الله تعالى من فضله.
- وهم على مراتب ودرجات في الرؤية بحسب قربهم من الله عز وجل.
· والمخالفون في هذا الأصل على درجتين:
- الدرجة الأولى: الكفار المكذبون بالبعث، وهم طوائف من المشركين الوثنيين والملاحدة، وبعض الفلاسفة القدماء الذين يزعمون أن الحشر للأرواح دون الأجساد.
وهؤلاء كلهم كفار لجحدهم معلوماً من الدين بالضرورة، وتكذيبهم خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
- الدرجة الثانية: المبتدعة الذين أنكروا بعض تفاصيل ما يكون في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة ورؤية المؤمنين لربهم عز وجل؛ فهؤلاء مَن بلغته منهم الأحاديث الصحيحة وهو عارف بمعناها عارف بصحتها ثم كذَّب بها فهو كافر لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومن عرضت له شبهة تأول بسببها معنى غير ما أجمع عليه السلف الصالح ودل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى لسان العرب فهو مبتدع ضال، ولا يكفَّر لأجل الشبهة التي عرضت له، ولأنه لم يقصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه على خطر عظيم بسبب ما وقع فيه من البدعة.

الركن السادس: الإيمان بالقدر
· الإيمان بالقدر أصل عظيم من أصول الإيمان، والقدر هو تقدير الله تعالى لكل شيء وهو يتضمن علم الله تعالى به وكتابته له في اللوح المحفوظ ومشيئته بوقوعه وعموم خلقه لكل شيء.
كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر: 49].
وقال: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان: 2].
وقال:﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾[الرعد: 8].
وقال: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[الطلاق: 3].
· فالإيمان بالقدر يتضمن أربع مراتب من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر:
- المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله تعالى الأزلي بكل شيء كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 75].
- المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، والكتابة من أدلة العلم، كما قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، وقال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61].
- وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70]، وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].
- وفي صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما أنَّ ناساً من أهل اليمن قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: جئناك لنتفقَّه في الدين، ولنسألَك عن أوَّلِ هذا الأمر ما كان؟ قال:(( كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثمَّ خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكرِ كلَّ شيءٍ)).
- الذكر هنا هو اللوح المحفوظ وهو المراد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 15].
- المرتبة الثالثة:الإيمان بمشيئة الله تعالى، وأنه لا يكون إلا ما يشاؤه الله عز وجل، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]، وقال:﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: 35]، وقال: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 112]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [يونس: 100]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ [الحج: 18]، وقال:﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: 14]، وقال: ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء﴾ [النور: 45]، وأدلة المشيئة في الكتاب والسنة كثيرة جداً.
- والمشيئة هي الإرادة الكونية، فإن الإرادة تطلق في الكتاب والسنة ويراد بها الإرادة الكونية المرادفة للمشيئة، وتطلق ويراد بها الإرادة الشرعية التي هي الأمر والنهي.
فأما الإرادة الكونية فإنها نافذة ولا بدَّ؛ لأن ما شاء الله كان وما شاء لم يكن.
وأما الإرادة الشرعية وهي الأمر والنهي فقد يمتثله العباد وقد لا يمتثلون وهو مدار الابتلاء والاختبار.
- لو شاء الله تعالى أن يجعل عباده كلهم مؤمنين مطيعين لفعل، ولو شاء أن يجعلهم كلهم عصاة لفعل، لكنه تعالى ابتلاهم بالأمر والنهي وجعل لهم قدرة واختياراً فمن امتثل بقدرته واختياره أثابه الله، ومن عصى الله بقدرته واختياره استحق العقاب.
- المرتبة الرابعة:الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: 62]،وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96].
· فمعنى القدر يتضمن هذه المراتب الأربعة.
· الله تعالى هو الخالق وما سواه مخلوق، فأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله غير مخلوقة، وما سوى الله فإنه مخلوق، وذلك أن الله تعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]؛ فلذلك فإنّ القرآن غير مخلوق؛ لأنّه كلام الله تعالى، وكلام الله غير مخلوق.
· والقدر لا يعارض الشرع، فإن العبد مكلف حقيقةً وله قدرة وإرادة فيطيع ويعصي باختياره، وله قدرة يتمكن بها من فعل ما يستطيع، والعبد لا يكلف إلا ما يستطيع كما قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن: 16].
· مما يدفع عن العبد كثير من الإشكالات والتحيرات التي وقع فيها الضالون في هذا الباب من المشركين والمبتدعة أن يعرف العبد معانيأسماء الله الحسنى، ويتفقه في آثارها في الخلق والأمر؛ فإن فقه الأسماء الحسنى عصمة من الضلالة في كثير من الأبواب التي ضل فيها الضالون.
· فمن آمن بأن الله تعالى هو الإله الودود الحميد العدل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً؛ تبين له ضلال الجبرية الذين يزعمون أن العصاة مجبورون على عصيانهم.
· ومن آمن بأن الله تعالى هو العليم القدير والملك الحق وأنه خالق كل شيء وأنه فعال لما يريد وأنه هو الحكيم البصير يهدي ويثيب رحمة منه وفضلاً، ويضل ويعاقب من يستحق العقاب حكمة منه وعدلاً، تبيّن له ضلال القدريّة في هذا الباب.
· جعل الله تعالى لقضاء الخير أسباباً من فعلها أثابه على ذلك بقضاء الخير، وجعل لقضاء الشر أسباباً من فعلها فقد تعرض لقضاء الشر والعياذ بالله؛ كما جعل للتوفيق والخذلان أسباباً بيَّنها في كتابه الكريم وبينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته التي هي كالمحجة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
· فمن تمسَّك بالكتاب والسنة واعتصم بالله هدي إلى صراط مستقيم، ومن أعرض وخاصَم ربه وتعمَّق في القدر مخاصماً ومعترضاً كان على شفا هلكة، ولم يزدد إلا حيرة وضلالاً.
· فاليقين والطمأنينة والعلم النافع والبصيرة لا تكون إلا بالتسليم لله تعالى والإيمان به وإحسان الظن به جل وعلا والرضى به رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالإسلام دينا.
· فمن كان كذلك ذاق طعم الإيمان وهدي إلى الصراط المستقيم في هذا الباب وغيره.
· واعلم أن المخالفين في باب الإيمان بالقدر أنواع:
- النوع الأول: المنكرون للقدر جملة، ومن هؤلاء طوائف من المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وغلاة القدرية الذين أنكروا علم الله بأفعال العباد قبل صدورها منهم، وهم أتباع معبد الجهني، وهؤلاء كفار وقد حدثت هذه الفرقة في أواخر عصر الصحابة، وذُكروا لعبد الله بن عمر؛ فكان ذلك سبب تحديثه بحديث جبريل الطويل.
- في صحيح مسلم وغيره عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبدٌ الجهني؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين؛ فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؛ فوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله؛ فظننت أن صاحبي سَيَكِلُ الكلام إلي؛ فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قِبَلَنا أناس يقرءون القرآن ويتقفَّرون العلم - وذكر من شأنهم - وإنهم يزعمون أن لا قَدَرَ وأَنَّ الأَمَرَ أُنُفٌ؛ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريءٌ منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنَّ لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً؛ فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
- ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ شديدٌ بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحدٌ...) فذكر حديث جبريل الطويل.
- وقد نُقل عن بعض السلف أنهم قالوا: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصِمُوا وإن أنكروه كفروا.
- النوع الثاني: المخاصمون والمعترضون، وهؤلاء إمامهم إبليس لعنه الله، وقد وقع في مخاصمة الله تعالى في القَدَرِ طوائف من المشركين والزنادقة وبعض أهل البدع.
وقد يقع في شيء من ذلك بعض عصاة المسلمين وهو على خطر في هذه المنازعة؛ والواجب الإيمان بالقدر والتسليم لله تعالى.
- وما أحسن ما قال ابن القيم رحمه الله: (فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمنى ربِّى، ومنعنى ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل فى معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار فى الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما فى زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغى أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً

- وقال: (فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التى هى مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهى أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذى له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ فى ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى)ا.هـ. - النوع الثالث: الذين ضلوا في باب المشيئة وهم طائفتان من الفرق الضالة:
الطائفة الأولى: القدرية ومن أشهرهم المعتزلة ومتأخروا الشيعة.
الطائفة الثانية: الجبرية ومن أشهرهم الأشاعرة والماتريدية.
· ومما ينهى عنه في باب القدر الخوض في تعليل أفعال الله جل وعلا بلا علم؛ فمن تكلم في هذا الباب العظيم بلا علم كان على خطر من الضلال، وهذا هو منشأ ضلال الفرق التي ضلت في هذا الأصل العظيم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تائيته:

وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهمـو لم يفهموا حكمةً له ... فصاروا على نوع من الجاهليـــة

هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


http://www.afaqattaiseer.net/vb/images/exa_logo/like.png (http://www.afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=15300#)