المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدرس الحادي عشر: الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة (مرتبة الإسلام)


هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 06:18 PM
الدرس الحادي عشر: الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة

(مرتبة الإسلام)


قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة؛ وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان.
وكل مرتبة لها أركان.
فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.
فدليل الشهادة: قوله تعالى: ﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]. ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وحده.
«لا إله»: نافيا جميع ما يعبد من دون الله. «إلا الله» مثبتا العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه.
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّنْ دُوْنِ اللهِ فِإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِّنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد: قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لَيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
ودليل الصيام قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].
ودليل الحج قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].


عناصر الدرس :
· أنواع المعرفة.
· بيان معنى الدين.
· بيان معنى الإسلام.
· بيان معنى مراتب الدين.
· بيان أركان الإسلام
· بيان دليل شهادة أن لا إله إلا الله
· بيان معنى لا إله إلا الله
· الرد على من أخطأ في معنى "لا إله إلا الله"
· دليل شهادة أن محمداً رسول الله
· دليل الصلاة
· دليل الزكاة
· دليل الصيام
· دليل الحج

قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ).
· سبق بيان معنى الأصل وأنه ما يبنى عليه، وسبق بيان التناسب بين هذه الأصول الثلاثة وأنها مأخوذة من الشهادتين، وأن هذه الثلاثة هي أصول الدين، وعليها مدار مسائله.
· المعرفة على نوعين: المعرفة التي يترتب عليها أثرها؛ فيتبعها الانقياد والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي المعرفة المحمودة.
· والمعرفة الأخرى: المعرفة التي يُراد بها الفهم والإدراك المجرد، وهذه حجة على صاحبها إن لم يقم بحقها.
- قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
- قال قتادة: (يعرفون أن الإسلام دين الله، وأن محمداً رسول الله يجدون ذلك مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
- وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
- فهؤلاء لا تنفعهم معرفتهم، وإنما يزدادون بها ضلالاً وطغيانا ثم تكون حجّة عليهم.
· إذا أطلق لفظ المعرفة في النصوص في موضع مدح أو حثّ فالمراد به المعرفة المحمودة، وإذا أطلق في موضع ذم أو احتجاج على صاحبها؛ فالمراد بها معرفة الإدراك وفهم الخطاب.

بيان معنى الدِّين
· يطلق لفظ (الدّين) في لسان العرب على معانٍ لها أصول جامعة منها العادة والانقياد والذل والحكم والجزاء.
· فالدين هو ما ينقادُ العبد لِحُكْمِه بتذلل وخضوع واعتياد.
· من إطلاق لفظ الدين على معنى العادة قول المثقِّب العَبْدي في ناقته:
إذا ما قمتُ أرحلُها بلَيل ... تأوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ
تقول إذا دَرَأْتُ لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
أكلَّ الدهرِ حلّ وارتحال ... أما يُبقِي عليَّ وما يَقِيني

- قال أبو منصور الأزهري: (دَرَأْتُ الوضِينَ إِذا بَسَطْتَه على الأَرض ثم أَنخْتَه عليه لتَشُدَّ عليه الرَّحْلَ).
· ومن إطلاقه على الذل والانقياد والدخول في الطاعة قول الأعشى:
هو دان الرباب إذ كرهوا الديـ.......ـن دراكاً بغزوة وصيال
ثم دانت بعد الرباب وكانت.......كعذاب عقوبة الأقوال
- دانَ الرَّبابَ: أي أذلها، ثم دانت بعد الرباب أي ذلت وانقادت.
· ويطلق على الحكم والسلطان كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76].
· ويطلق على الحساب والجزاء كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] أي الحساب والجزاء الذي يدان فيه الناس بأعمالهم، وقوله: ﴿يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق﴾[النور: 25].
· فهذه أشهر المعاني التي يطلق عليها لفظ الدِّين في اللغة.
· معرفة المعنى اللغوي لألفاظ العقيدة تعين على فهم المعنى الشرعي؛ فبين الإطلاقين اللغوي والشرعي تناسب، وغالباً ما يكون المعنى الشرعي مخصصاً لإطلاق المعنى اللغوي.
· إذا انتفى المعنى اللغوي انتفى المعنى الشرعي؛ فالذي لا ينقاد لحكم الله عز وجل الشرعي ولا يخضع لأوامر شريعة الإسلام لا يكون داخلاً في دين الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) ﴾ [التوبة: 29].
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال: دنته فدان أي أذللته فذل ويقال يدين الله ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له)ا.هـ.
· فمعنى الدخول في دين الإسلام هو الانقياد لأحكام الشريعة الإسلامية والتزام أوامرها ونواهيها على وجه التعبد.

بيان معنى الإسلام
قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ).
· المراد بالإسْلاَمِ هنا شريعة الإسلام التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخ الله بها جميع الأديان السابقة؛ فقال الله تعالى:﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
· قوله: (بالأَدِلَّةِ) هذا فيه بيان وجوب معرفة الحق بدليله فيكون متبعاً صاحب حجة، لا مقلّداً لا حجة له.
· مَنْ عَلِم الحق بدليله في مسألة من المسائل فهو عالمٌ بها، فإن كان هذا دأبه في مسائل العلم أن يعرفها بدليلها وكثر ذلك منه؛ فهو من العلماء.
- قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد يستويان

قوله: (وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، والانقيادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ).
· هذا تعريفٌ للإسلام بمعناه الشرعي.
· في بعض النسخ (والخلوص من الشرك)، أي: السلامة من الشرك.
- قال شيخنا الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: (والمعروف عنه في النسخ الصحيحة التي قُرِأت على العلماء (البراءة من الشرك وأهله)؛ لأن البراءة تشمَل الخلوص وزيادة، وهي الموافقة لقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26، 27]).
· الإسلام في اللغة مصدر أسلمته إسلاماً، ولا يسمى إسلاماً حتى يتحقق فيه وصفان:
- أحدهما: الإخلاص والبراءة من المشاركة والعلّة وغيرها مما يقدح في الإسلام.
- والآخر: تمكين المسَلَّم للمسلَّم له وانقياده له في كل موضع بحسبه.
· مما يوضح هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر: 29].
- متشاكسون أي: مختلفون متنازعون غير متفقين، بل يسيئ بعضهم إلى بعض.
- ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ أي خالصاً له منقاداً إليه، ليس لأحد فيه شراكة، وهذا مثل ضربه الله لتقبيح الشرك، وتحسين الإسلام.
· المقصود: أن المسلم هو الذي أسلم دينه لله فلم يجعل لله شريكاً فيه وانقاد لأوامر الله جل وعلا، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: 125]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [لقمان: 22].
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد فُسِّرَ إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ بالعمل الصالح المشروع المأمور به، وهذان الأصلان جماع الدين: أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع)ا.هـ.
· إسلام الوجه هو: إسلام القصد والنية وتخليصها من قصد الشرك مع الله جل وعلا.
· إطلاق لفظ الوجه على القصد معروف في لسان العرب،وفي الحديث المتفق على صحته: (( ووجهت وجهي إليك))، وقال بشر بن أبي خازم الأسدي:
إِلَيكَ الوَجهُ إِذ كانَت مُلوكي ... ثِمادَ الحَزنِ أَخطَأَها الرَبيعُ

· قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: (الوَجْهُ يتناول المتوجِّه والمتوجَّه إليه، كما يقال: أي وجه تريد؟ أيْ: أيَّ وجهة وناحية تقصد، وذلك أنهما متلازمان، فحيث توجَّه الإنسان توجَّه وجْهُه، ووجهُهُ مستلزمٌ لتوجُّهِهِ، وهذا في باطنه وظاهره جميعاً، فهذه أربعة أمور، والباطن هو الأصل، والظاهر هو الكمال والشعار؛ فإذا توجَّه قلبُه إلى شيء تَبِعَه وجْهُه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسناً فقد اجتمع أن يكون عمله صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، وهو قول عمر رضي الله عنه: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً).
· وقال: (العمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسناً في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب).
· الخلاصة أن الإسلام لا بد فيه من جمع أمرين:
- الأمر الأول: الاستسلام والانقياد لأمر الله جل وعلا.
- الأمر الثاني: الإخلاص والبراءة من الشرك في ذلك.
· فالمسلم هو الذي أخلص دينه لله جل وعلا، وانقاد لأمره.
· بهذا تعلم أن المشرك غير مسلم لأن دينه ليس بخالص لله جل وعلا، والمستكبر غير مسلم لأنه ممتنع غير منقاد لأمر الله جل وعلا، قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾[النساء: 172].
· قال ابن تيمية: (الإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده؛ فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به، والمستكبر عن عبادته: كافرٌ، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده؛ فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره)ا.هـ.
· وهذا يدلّك على أن المسلمين يتفاضلون في إسلامهم بتفاضل الإخلاص وكمال الانقياد، فكلما كان العبد أحسن إخلاصاً وانقياداً كان أحسن إسلاماً.
· في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا أَحْسَنَ أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها)).
· فالإسلام يتضمن معنى الإخلاص، إخلاص العبادة من الشرك في الاعتقاد والقول والعمل، وإخلاص الانقياد لله تعالى بطاعته، وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيه.
· توحيد الربوبية حجة في وجوب توحيد العبادة؛ فكما أن الله تعالى هو الملك الخالق الرازق المدبر للأمر، وحده لا شريك له في ذلك؛ فكذلك يجب أن يخلص العبد عبادته لله تعالى ويسلمها له جل وعلا، فيخلصها من الشرك بعبادة غير، ويخلّصها من الإباء المنافي للانقياد.

بيان مراتب الدين
قوله: (وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتبَ: الإسْلاَمُ، وَالايمَانُ، وَالإحْسَانُ).
· أي إن دين الإسلام على ثلاث مراتب دلَّ عليها حديث جبريل عليه السلام؛ فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، وسأله عن الإيمان، وسأله عن الإحسان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (( هذا جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم)).
· هذه المراتب متفاضلة؛ فأفضلها مرتبة الإحسان، وتليها مرتبة الإيمان، وتليها مرتبة الإسلام؛ فهي على هذه المراتب الثلاث، وأوسعها مرتبة الإسلام، وأخص منها مرتبة الإيمان، وأخص منهما مرتبة الإحسان؛ فكل محسن مؤمن مسلم، ولا ينعكس.
· هذه المعاني الثلاثة لها وصف أصل ووصف كمال؛ فالمسلم لا بد له من قدر من الإيمان يصح به إسلامه، والمسلم معه أيضاً أصل الإحسان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والتوحيد أعظم الحسنات.
· لكن لا يسمى محسناً حتى يأتي بالإحسان كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
· وكذلك لا يسمى مؤمناً حتى يأتي بالقدر الواجب من الإيمان؛ فأما ضعيف الإيمان وناقص الإيمان فيسمى مسلماً أو مؤمناً ناقص الإيمان.
· وهذا كما لا يوصف من عَلِمَ بعض المسائل في العلم بأنّه عالم حتى يجمع من أبواب العلم ما يستحق به هذا الوصف، وكما أن من فعل شيئاً من أفعال الوضوء كالمضمضة وغيرها لا يسمى متوضئاً حتى يكمل فروض الوضوء الواجبة؛ فيكون متوضّئا.

قوله: (وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ).
· لفظ الأركان لم يرد في النص النبوي؛ لكن فهم أهل العلم من حديث ((بني الإسلام على خمس)) أن هذه الخمس هي أصول الإسلام التي بني عليها، وما يبنى عليه الشيء فهو ركن له.
· الركن: هو الأصل الذي يُعتمد عليه في البنيان وغيره، ولا يكون ركناً حتى يكون فيه معنى القوة والدعامة ليحتمل ما يبنى عليه، وإذا انهدَّ الركن انهدَّ ما بني عليه.
· ركن الجبل جانبه وأصله الذي يعتمد عليه أعلاه، قال متمم بن نويرة:
فلو أَنَّ ما أَلْقَى يُصِيبُ مُتالِعاً ... أَوِ الرُّكْنَ من سلْمَى إِذاً لَتَضَعْضَعَا

- متالع وسلمى جبلان، و(تضعضع): سقط وانهد ولم يثبت.
· والمرتبة والرتبة: هي المنزلة، ومراتب السُّـلَّم درجاته، واحدتها مرتبة، قال الفرزدق:
كَأَنَّ يَدَيها في مَراتِبِ سُلَّمٍ ... إِذا غاوَلَت أَوبَ الذِراعَينِ بِالرِجلِ

· وأصل إطلاق هذا اللفظ كما قال الخليل بن أحمد: (المراتب في الجبال والصحاري، وهي الأعلامُ التي تُرَتَّبُ فيها العيونُ والرُقباءُ)ا.هـ.
· وقال الأصمعي: (المرتَبةُ: المَرْقَبَةُ، وهي أعلى الجبلِ).
· وقال ابن سيده في المحكم: (كل مقام شديد: مرتبة، قال الشمَّاخ:
ومـرتبة لا يستـقـال بِها الردى ... تلافى بها حلمي عن الجهل حاجز)ا.هـ.

· والأمر الثابت الدائم يسمى راتباً.
· وهذه الأوصاف التي تشعر بالعلو والشدة والإحكام والثبات والتنظيم تطلق على الأمور المعنوية كما تطلق على الأمور الحسية.
- فيقال: (رجل له مرتبة في قومه) إذا كان ذا منزلة عالية ومقام ثابت محكم يجعله في منعة ورفعة لديهم، فإذا فَقَدَ هذه المعاني وَهَت مرتبته، كما قال ذو الرمة:
أَلا رُبَّ مَن يَهوَى وَفاتي وَلو دَنَت ... وَفاتي لَذَلَّت لِلعَدُوِّ مَراتِبُه


· المقصود: أن مراتب الدين يترتب بعضها على بعض ترتباً تصدق عليه الأوصاف المذكورة؛ فهي كبناء أصله واسع هو المرتبة الأولى وهي مرتبة الإسلام، ثم تترتب عليه مرتبة أصغر دائرة منه هي مرتبة الإيمان، ثم تترتب عليهما مرتبة ثالثة أقل دائرة منهما وأعلى منهما، وهي مرتبة الإحسان، نسأل الله تعالى بلوغها والثبات عليها حتى الممات.

أركان الإسلام
قوله:(فَأَرْكَانُ الإِسْلاَمِ خَمْسَةٌ، وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: (( بُنِي الإسْلاَمُ عَلى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ))).
· هذه الأمور الخمسة هي أركان الإسلام وأصوله التي يقوم عليها إسلام العبد.
· تضمنت هذه الخمسة قواعد الإسلام وشعائره العظام، وهي أصول العبادات وينبني على كل أصل أنواع من العبادات.
· هذه الأصول على مراتب؛ فأصل هذه الأركان الشهادتان فلا يدخل العبد في الإسلام حتى يشهد الشهادتين، ولا تصح منه سائر الفرائض قبل أن يشهد الشهادتين.
· وعمود الإسلام الصلاة كما في حديث معاذ بن جبل مرفوعاً في المسند والسنن.
· فإذا استقر الأصل وقام عمود الإسلام ثبت وصف الإسلام للعبد، فإن لم يقم بهذا الأصل أو انتقض بارتكاب ما ينقض الشهادتين فليس من المسلمين.
· وإذا سقط عمود إسلام المرء فلا إسلام له؛ كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة)).
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
· وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته: (لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة). رواه مالك في الموطأ.
· وأما الأركان الثلاثة الأخرى فقد أجمع أهل العلم على أن من تركها جاحداً لوجوبها فهو كافر لأنه مكذب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا التكذيب ينقض الشهادتين.
· وكذلك من تركها إباء وامتناعاً عن الانقياد لشريعة الإسلام فهو كافر لأن هذا الإباء والامتناع ينقض الشهادتين.
· وأما من تركها تهاوناً وكسلاً من غير جحد لوجوبها ولا امتناع عن الانقياد لأحكام الشريعة فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه مرتكب لكبيرة من الكبائر وأن إسلامه ناقص ولا يكفر بذلك لبقاء أصل الإسلام وعموده، لكنه متوعَّد بالعذاب الشديد على تركه لهذه الفرائض العظيمة كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة في وعيد تارك الزكاة وتارك الصيام.
· هذه الأركان الخمسة من الشعائر التعبدية الظاهرة فيعملها الموحدون لله جل وعلا، ويعمل المشركون نظائرها تقرباً لآلهتهم.
- فشهادتهم ما يهلّون به من ألفاظ الشرك التي تتضمن الشهادة لآلهتهم بأنها تنفع وتضر وتستحق أن تعبد، وما يشهدون به لمتبوعيهم بأنهم أحق من يتبع.
- ولهم صلوات يؤدونها لآلهتهم وإن اختلفت في كيفيتها عن صلاة المسلمين، كما قال الله تعالى عن المشركين: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35] فالأقوال والأفعال المنتظمة التي تؤدى على وجه التعبد هي صلاة وإن اختلفت كيفيتها عن صلاة المسلمين.
- وتقديمهم للأموال والقرابين هو نظير أداء الزكاة عند المسلمين، وإن لم يسموها زكاة، ذلك أن منهم من يجعل على نفسه قدراً معلوماً من المال يتقرب به، ومنهم من يُفرض عليه هذا المال بأسماء مختلفة.
- وكذلك الصيام منهم من يصوم تقرباً وطمعاً في أشياء يرجوها من تلك الآلهة التي يتقرب إليها وإن اختلف صيامه عن صيام المسلمين فمنهم من يصوم عن الكلام، ومنهم من يصوم عن بعض الأطعمة ومنهم من يواصل الصيام أياماً عن كل شيء فيجوع نفسه ويشق عليها طمعاً أن تتنزل عليه الشياطين ويظن أنهم خدام مرسلون من تلك الآلهة، وكل إمساك تُقُرِّبَ به إلى غير الله جل وعلا فهو صيام.
- وكذلك الحج يفعله المشركون وهو من الشعائر الظاهرة لديهم فمنهم من يقطع المسافات البعيدة لزيارة قبر يُعبَد من دون الله جل وعلا؛ فيحج إليه ويطوف حوله ويذبح له ويفعل ما يضاهي به حج المسلمين، فهذا حج وإن لم يسمّوه حجاً فالعبرة بحقائق الأشياء.
· فعلم بذلك أن هذه الخمسة هي أصول العبادات الظاهرة ويجب إخلاصها لله جل وعلا، كما أن أصول العبادات الباطنة المحبة والخوف والرجاء ويجب إخلاصها لله جل وعلا.
قوله: (وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ).
· الدليل هو الذي يدلّ على الهدى ويرشد إليه، ودليل القوم هاديهم الذي يرشدهم إلى الطريق الصحيح.
· كان العرب إذا سافروا في طريق لا يعرفونه يتخذون دليلاً يرشدهم لئلا يهلكوا في المفاوز ويضلوا عن قصدهم؛ ويكون ذلك الدليل بصيراً بالطرق والأعلام وموارد الماء فيدلهم على الطريق ويدلهم على ما يتزودون به من الماء لئلا يهلكوا عطشاً، فمن امتثل دلالة الدليل نجا وبلغ المقصد ومن خالفه كان على خطر من الهلاك والضلال عن مقصده.
· وكذلك في الأمور المعنوية إذا صح الدليل، وكان وجه الاستدلال صحيحاً صحت الدلالة وتبـيَّن بذلك الهدى والصواب.
· وسميت الآيات والأحاديث أدلة، وواحدها دليل لأنها تدل على الهدى وتبيّنه وترشد إليه، ومن خالف دلالة الدليل الصحيح كان على خطر من الضلال والشقاء.

قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾[آل عمران: 19] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ﴾[آل عمران: 85]).
· قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى) أي الذي هداني وأرشدني إلى ما قلت وبينت هو قوله تعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: 19].
· المراد بالإسلام في هذه الآية الإسلام الشرعي العام الذي هو دين الأنبياء جميعاً وهو التوحيد، وعلى هذا تفاسير السلف لمعنى الإسلام في هذه الآية.
· قال قتادة في قوله تعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]: (الإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به). رواه ابن جرير.
· وفيه دلالة على وجوب التوحيد وأنه الدين الذي يقبله الله تعالى، والإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أصله التوحيد لله جل وعلا.
· قال ابن القيم رحمه الله: (وقد دلَّ قوله: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾[آل عمران: 19]على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه، قال أوَّل الرسل نوح: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72]، وقال إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾[البقرة: 128]، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132]، وقال يعقوب لبنيه عند الموت: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾[البقرة: 133] إلى قوله﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]، وقال موسى لقومه: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾[يونس: 84]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 52]، وقالت ملكة سبأ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[النمل: 44]؛ فالإسلام دين أهل السموات، ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد ديناً سواه)ا.هـ.
· وقال ابن كثير رحمه الله: (قوله: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: 19] إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]).ا.هـ.

قوله: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ﴾ [آل عمران: 85]).
· للسلف في المراد بالإسلام في هذه الآية قولان:
- القول الأول: هو دين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وأصله الشهادتان، وعليهما مدار التوحيد، وأن هذه الآية نسخت جميع الأديان السابقة من اليهودية والنصرانية والصابئية وبقايا الحنيفية.
- القول الثاني:المراد به الإسلام العام الذي هو دين جميع الأنبياء،وهو توحيد الله تعالى
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً﴾ [آل عمران: 85] الآية عام في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عبادة المؤمنون كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين)ا.هـ.
· وأجمعوا على أن المراد بالإسلام في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]، هو دين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.

دليل الشهادة
قوله:(وَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾[آل عمران: 18]،وَمَعْنَاهَا: لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ.
(لاَ إِلهَ) نَافِياً جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ،(إِلَّا اللهُ)مُثْبِتاً العِبَادَةَ للَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ).

· قوله تعالى: ﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾[آل عمران: 18].
· لفظ الشهادة وما تصرف منه يطلق على معنيين مشهورين:
- المعنى الأول: الحضور والمعَاينَة والإبصَار، كما في قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2].
- المعنى الثاني: الإخبار البيّن الجازم عن أمرٍ ذي شأن، وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: ﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18].
- وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) ﴾ [الزخرف: 19].
﴿أَشَهِدُوا﴾ استفهام إنكاري، أي: هل حضروا خلقهم وعاينوه؟
و﴿شَهَادَتُهُمْ﴾ أي إخبارهم الجازم في هذا الأمر العظيم.
· والمقصود أن الشهادة بالمعنى الثاني تتضمن معاني الإخبار والبيان والجزم عن أمر ذي شأن؛ فإذا تحققت هذه الأوصاف سمي شهادة وإن لم يكن فيه لفظ الشهادة، ولذلك سمى الله تعالى هذا الزعم منهم شهادة.
· والشهادة إذا لم تكن بحق فهي شهادة زور.
· وسمي قول (لا إله إلا الله) شهادة لأنه إخبار بيّن جازم عن أمر ذي شأن.
· قوله تعالى: ﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾[آل عمران: 18].
- أي أن الله تعالى وملائكته وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا الله.
- قال ابن القيم رحمه الله: (وقوله تعالى: ﴿قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ القسط هو العدل؛ فشهد الله سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله، والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال؛ فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة)ا.هـ.

بيان معنى لا إله إلا الله
قوله: (وَمَعْنَاهَا: لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ؛ (لاَ إِلهَ) نَافِياً جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، (إِلا اللهُ) مُثْبِتاً العِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ).
· معرفة معنى (لا إله إلا الله) واجبة لأنها مفتاح الدخول في الإسلام فيجب معرفة معناها مع القدرة؛ فإذا لم يستطع معرفة معناها كفاه القيام بمقتضاها، فإذا كان لا يعبد إلا الله، ويعتقد بطلان ما يعبد من دون الله؛ فقد أتى بالمراد من هذه الكلمة.
- وذلك كما لو دعي أعجمي للإسلام فأسلم وقال هذه الكلمة وهو لا يفقه معناها لكنه يعتقد مقتضاها فإنها تنفعه بإذن الله.
- وكذلك لو سألت مسلماً عن معنى (لا إله إلا الله) فأخطأ تفسيرها فإن كان لا يعبد
إلا الله ويشهد بالبراءة مما يعبد من دون الله؛ فهو مسلم موحّد وإن أخطأ في التفسير.
- أما إذا كان لا يعتقد مقتضاها فإنها لا تنفعه ولو كان يعرف معناها؛ فإذا كان يقول: (لا إله إلا الله) وهو يرى جواز اتخاذ وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتقرب إليهم فهو مشرك كافر، وإن قال: (لا إله إلا الله).
· ومعنى (لا إله إلا الله): أي لا معبود بحق إلا الله جل وعلا.
- (لا) حرفٌ لنفي الجنس، إذا دخل على النكرة المباشرة غير المكررة نصبها وجوباً اسماً له ورفع الخبر.
- إله: اسم (لا) منصوب تحققت فيه شروط وجوب النصب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
- والإله هو المألوه أي المعبود الذي تألهه أي تتعبد له الخلائق محبة وتذللاً وتعظيماً.
- وخبر (لا) محذوف لظهور العلم به وتقديره (حق)، وحذف خبر (لا) عند ظهور المراد به شائع عند العرب، قال ابن مالك:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع إسقاطه ظهر

- (إلا الله) استثناء يتضمن إثبات وصف الإله لله وحده جل وعلا دون ما سواه؛ فهو الإله الحق، وكل ما اتُّخذ إلهاً من دونه فهو باطل كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62].
- وقد قدر بعض النحاة خبر لا بـ (موجود) وهو خطأ باعتبار وصحيح باعتبار آخر، والصحيح الذي لا خطأ فيه وتدل عليه الأدلة الصحيحة تقديره بـ(حق).
- الذين قدَّروه بـ(موجود) إن كان مرادهم مطلق وجود ما يعبد من دون الله فهذا خطأ؛ فإن الآلهة التي اتخذت من دون الله كثيرة، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الفرقان: 3]، وكم حطم النبي صلى الله عليه وسلم من صنم اتخذ إلها من دون الله!!
- وإن كان مرادهم بالوجود: الوجود المعتبر شرعاً فهذا حق ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: 42] وقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ
مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ [الحج: 62] فهي آلهة باطلة ليست بشيء.
- ولكن الله أرشدنا في التعبير أن نأخذ بالقول الذي لا يتذرع متذرّع بتفسيره بالباطل على منهج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 14].
- فتقديره بـ(حق) هو الصواب حينئذ، وهو مرادف للوجود الشرعي.
· وحذف خبر (لا) شائع عند العرب ويقدر في كل مقام بحسبه،كما لو سُئلت:من عندك؟ فقلت:لا أحد؛ فإنك تريد:لا أحد عندي، فلو ذكرت خبر (لا) خالفت البلاغة في القول.
· ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))، فشهر صفَر موجود، ولكنَّ المنفي هو الاعتبار الشرعي لاعتقادهم فيه، وكذلك الطيرة موجودة، ولكن المنفي هو الاعتبار الشرعي لها، وهكذا يقدر الخبر في كل مقام بحسبه.
· وتقدير الخبر المحذوف مبنيٌّ على فهم المعنى المراد؛ ففي كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) ليس المنفي الوجود الكوني للآلهة التي تعبد من دون الله بالباطل، وإنما المنفي هو الاعتبار الشرعي لها وأنها تستحق شيئاً من العبادة.
· ولذلك كثرت الأدلة من الكتاب والسنة على إبطال استحقاق غير الله للعبادة، قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾[الفرقان: 3]، وقال: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾[الأعراف: 191]، وقال: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].
· وفائدة الإعراب بيان المعنى المراد، فكلّ إعراب أدَّى معنى باطلاً فهو خطأ مردود.
· ينبغي لطالب العلم أن يعتني بإعراب كلمة التوحيد عناية جيّدة؛ لأن من المشركين من يكون صاحب علوم وحجج كما يكون ذلك لدى بعض القبوريين فإن منهم من يكون عارفاً بشيء من العلوم اللغوية والشرعية لكنه على ضلال مبين بتقريره الشرك ومحاولة الاحتجاج له؛ فينبغي لطالب العلم أن يعرف من الحجج اللغوية ما يدفع به شبهات المبطلين.
· وقد يطلع بعض طلاب العلم على بعض ما يكتب في إعراب هذه الكلمة لعلماء معروفين من النحاة واللغويين ويطلع على خطأ في ذلك، فلا يغرّه صدور هذا الخطأ من بعض أكابر النحاة فإن الإعراب تبع لفهم المعنى، ولذلك لا يجوز أن يتكلم في إعراب القرآن من لا يحسن معرفة التفسير وأصوله ولو بلغ في علم النحو ما بلغ.
· أفرد بعض النحاة وشرّاح الأحاديث إعراب كلمة التوحيد برسائل مفردة منها: رسالة لابن هشام النحوي(ت:761هـ)، للزركشي (794هـ)، وللملا علي قاري(ت:1014هـ)، وللكوراني (ت:1101هـ).
· أكثر ابن هشام النحوي في رسالة له مستقلة في إعراب (لا إله إلا الله) من الأوجه الإعرابية حتى أوصلها إلى عشرة أوجه، وأورد فيها أقوالاً لعدد من النحاة منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة ومنهم من أهل السنة، وفي توجيهات بعض النحاة نظر ظاهر.
· إذا تبين هذا؛ فاعلم أن العرب -وهم أهل الفصاحة- لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: (لا إله إلا الله) استنكفوا واستكبروا، وعادوا الرسول وآذوه وأخرجوه من بلده وشاقّوه وشاقوا أصحابه وقطعوا أرحامهم، وقذفوهم بالزور والبهتان والأوصاف الشنيعة انتصاراً لآلهتهم، كما بين الله تعالى حالهم بقوله جل وعلا: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) ﴾ [الصافات: 35-37].
· سبب ذلك كلّه معرفتهم بمعنى "لا إله إلا الله"، وأن الشهادة بها شهادة ببطلان عبادة ما يعبد من دون الله جل وعلا، والدخول في دين الإسلام.
· ولو كان معناها ما فسَّره به من أخطأ في تفسير كلمة التوحيد لما كان لهذه العداوة موجب.
· معرفة ما اشتهر من التفسيرات الخاطئة لكلمة التوحيد، وكشف بطلانها مهم للطالب.
· قد يجد طالب العلم لدى بعض الفرق اضطراباً في تفسير كلمة التوحيد؛ فمنهم من يفسرها تفسيراً صحيحاً، ومنهم من يخطئ في تفسيرها.
· نقل عن الأشاعرة نحو أربعة أقوال في تفسيرها:
- ففسر بعضهم الإله بأنه المعبود بحق وأن لا إله إلا الله معناها لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو التفسير الصحيح الموافق لتفسير أهل السنة والجماعة.
- وفسر بعضهم الإله بأنه القادر على الاختراع، وأن معنى (لا إله إلا الله) أي لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا قصر لمعنى كلمة التوحيد على نوع من أنواع توحيد الربوبية.
- وفسر بعضهم الإله بأنه المستغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
- وفسر بعضهم لا إله إلا الله بأن معناها: (أنه واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له)
- والتفسيران الأخيران قاصران أيضاً مخالفان للأدلة الصحيحة، ولا تقتضيهما اللغة.
· وتفسير كلمة التوحيد ببعض معاني الربوبية خطأ كبير شاع لدى بعض الفرق وراج لدى جهلة العوامّ، وانتشر بسبب ذلك من البدع والشركيات ما الله به عليم.
· على طالب العلم أن يفقه الدلائل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون أن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر للأمر ولم يدخلهم ذلك في الإسلام.
· فلو كان معنى (لا إله إلا الله) هو ما شهدوا به من معاني الربوبية لم يكن لمعارضتهم وامتناعهم عن قول (لا إله إلا الله) وجه.
· تأمّل ما رواه الإمام أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أن مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل.
قال: فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول؛ فلو بعثت إليه فنهيته؛ فبعث إليه أو قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب مجلس رجل.
قال: فخشي أبو جهل إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب أن يكون أرقَّ له عليه؛ فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد النبيُّ صلى الله عليه وسلم مجلساً قُرْب عمّه؛ فجلس عند الباب.
قال أبو طالب: أي ابنَ أخي ما بال قومك يشكونك؟! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول وتفعل وتفعل، فأكثروا عليه من اللَّحْوِ؛ فتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (( يا عمّ إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ))؛ ففزعوا لكلمته ولقوله؛ فقال القوم:" كلمة واحدة؟!! نعم وأبيك وعشرا، وما هي؟ قال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: (( لا إله إلا الله ))
قال: فقاموا فَزِعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص: 5].
قال: وقرأ من هذا الموضع إلى قوله: ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص: 8]). والحديث رواه الترمذي أيضاً والنسائي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه.
- فتأمل كيف أنهم كانوا أعرف بمعنى (لا إله إلا الله) من بعض أصحاب هذه الفرق الضالة؛ فإنهم فهموا من هذه الكلمة أنها تقتضي بطلان عبادة ما يعبد من دون الله تعالى.
· وبعض المتصوفة يقولون: إن معنى (لا إله الا الله) للعوام لا معبود إلا الله، ومعناها للخواص لا محبوب إلا الله، ومعناها لأخص الخواص لا موجود إلا الله، وهذا التفسير كفر مبين شاهد على صاحبه بعقيدة الحلول والاتحاد التي هي من أكفر الكفر، والعياذ بالله.
· المقصود من هذا العرض التنبّه للتفسيرات الخاطئة لكلمة التوحيد، وأنها قد تصدر من أناس لهم مكانة علمية فلا يغتر بذلك طالب العلم.

قوله:(وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26، 27] الآيَة، وَقَوْلُهُ:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] ).
· أي إن هاتين الآيتين تفسران معنى كلمة التوحيد.
· فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26، 27] فتضمنت البراءة مما يعبد من دون الله جل وعلا، وإثبات العبادة لله وحده، وهذا هو معنى التوحيد.
- لا بد في التوحيد من نفي وإثبات، نفي استحقاق غير الله للعبادة والبراءة مما يعبد من دون الله، وإثبات العبادة لله وحده؛ فلا يكون موحّداً إلا من جمع بين النفي والإثبات.
- وهذا أمر يدل عليه المعنى اللغوي للتوحيد، فجعل الشيء واحداً يستلزم إثباتاً ونفياً، إثبات الوحدانية له، ونفي مشاركة غيره له.
· وأما قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 64].
- السَّوَاء في لسان العرب: النَّصَف والعدْل، وأصل ذلك أن العرب إذا تنازعوا وحصل بينهم قتل وجراحات وأرادوا الصلح تداعوا إلى السَّواء فيصطلحون على أمرٍ يكون فيه إنصاف للمتنازعين يسوَّى فيه بينهم في الدماء والحقوق.
- قال زهير ابن أبي سلمى:
أَرونا سُنَّــةً لا ضيـم فيها ... يُسَوَّى بَينَنا فيها السَّــواءُ
فَإِن تَدَعُوا السَّواءَ فَلَيسَ بَيني ... وَبَيــنَكُمُ بَنــي حِصنٍ بَقاءُ

- ومن العرب من تأخذه العزة بالإثم، والبَطَر بالقوة فيأبى الدعوة إلى السَّواءِ، كما قال عنترة:
أبينا فما نُعطي السَّواءَ عدوَّنا ... قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ
- يكون السَّواء عند العرب في الأمور المادية من الجراحات والمعاوضات ويكون في الأمور المعنوية من الدعاوى والمقاولات والتهاجي.
- قال ابن جرير: (﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ [آل عمران: 64] يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا).
- الكلمة تطلق في اللغة على الجملة المفيدة، وأما اصطلاح النحويين على أن الكلمة اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فيجعلون الاسم كلمة، والفعل كلمة، والحرف الذي جاء لمعنى كلمة؛ فهذا اصطلاح حادث، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن ليتفطَّن إلى أن معنى الكلمة في لسان العرب ليس هو المعنى الاصطلاحي عند النحاة.
- قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ [المؤمنون: 99، 100] فسمَّى هذه الجملة المفيدة كلمة، والأدلة والشواهد على هذا الإطلاق كثيرة جداً؛ فكلمة التوحيد: هي كلمة (لا إله إلا الله).
- والكلمة السَّواء التي دعا الله تعالى إليها هي: ﴿أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64].
- وهذه الآية بيَّنت معنى التوحيد، وأن تفسيره الصحيح الذي لا يصح غيره أنه عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله جل وعلا. ﴿أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ [آل عمران: 64].
· قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[آل عمران: 64].
- قال ابن عطية: (واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب:أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم، وبهذا فسَّر عكرمة، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً، وبهذا فسَّر ابن جريج؛ فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله)ا.هـ.
· ودلَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] على أن من قام بذلك فهو من المسلمين، ومن أبى وتولَّى فليس بمسلم.

قوله: (وَدَلِيلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوْفٌ رَحِيمٌ﴾ ، وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَأنْ لاَ يُعْبَدَ اللَّهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ).
· هذا فيه بيان دليل شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان معناها.
· سيأتي شرح ذلك بالتفصيل المناسب إن شاء الله تعالى عند بيان الأصل الثالث.
قوله: (وَدَلِيلُ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لَيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة: 5]).
· هذه الآيات فيها بيان معنى التوحيد وأنه عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا معنى الإخلاص، أن لا تجعل لله شريكاً في عبادته.
· ﴿حنفاء﴾ مستقيمين على طاعته.
· ﴿ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة﴾ هذا فيه الدليل على الركن الثاني والثالث من أركان الإسلام، وقرْنهما بالتوحيد في أسلوب الحصر دليل على عظم شأنهما.

قوله: (وَدَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾).
· فرض صيام شهر رمضان بنزول هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
· لم يفرض شيء من الصيام على المسلمين قبل الهجرة.
· وبعد الهجرة فرِض صيام يوم عاشوراء؛ ثم نُسخ فرضه وترك على الاستحاب بعد فرض صيام رمضان.
· عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية؛ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه؛ فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء؛ فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) متفق عليه.

قوله: (وَدَلِيلُ الحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾).
· هذا فيه بيان أدلة إضافية على أن الصلاة والزكاة والصيام والحج عبادات عظيمة، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
· أجمع العلماء على أن هذه العبادات من العبادات العظيمة؛ فمن أداها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر.
· وسبق بيان أن هذه العبادات العظيمة هي من الشعائر التعبدية الظاهرة وأن المسلمين يؤدونها لله تعالى، وأن المشركين يؤدون نظائرها لآلهتهم التي يدعونها من دون الله جل وعلا.
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


http://www.afaqattaiseer.net/vb/images/exa_logo/like.png (http://www.afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=15171#)