المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدرس السابع: بيان معنى العبادة وأنواعها


هيئة الإشراف
_10 _January _2014هـ الموافق 10-01-2014م, 06:08 PM
الدرس السابع: بيان معنى العبادة وأنواعها

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:



(وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾ [الجن:18]، فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117]).


عناصر الدرس:
1: بيان معنى العبادة
- أنواع العبادة
- لوازم العبادة
- العبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح
- طرق معرفة العبادة
- شروط قبول العبادة
2: التذكير بالعهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا.
3: بيان درجات تحقيق العبودية لله تعالى.
4: بيان الفرق بين العبادة الكونية والعبادة الشرعية.
5: بيان وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة.


مقاصد الدرس
· لما ذكر المؤلف رحمه الله أن الأصل الأول من أصول الدين هو معرفة العبد ربه جل وعلا، وبين أن أعظم ما أمر الله به التوحيد وفسره بأنه إفراد الله بالعبادة، وذكر الدليل على ذلك، وبين أن أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك في عبادة الله جل وعلا، اقتضى الترتيب أن يبين معنى هذه العبادة التي لها هذا الشأن العظيم.
· معرفة معنى العبادة من أهم ما يجب على طالب العلم معرفته.
· من المهم في هذا الباب دراسة الأصول التي يميّز بها طالب العلم حقيقة العبادة وكيف يدخل الشرك في العبادات وسبل تجنب هذا الشرك.
· هذا الدرس مقدّمة ممهّدة لدرسين بعده في أنواع العبادات التي ذكرها المؤلّف رحمه الله.

بيان معنى العبادة
· قال ابن جرير رحمه الله: (العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة (معبَّدًا) ).
· قال طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت ... وَظِيفًا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ

· قال ابن جرير: (يعني بالموْر: الطريق، وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء، ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد، ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه)ا.هـ.
· وقال أبو منصور الأزهري: (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع. ويقال طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلَّلا بكثرة الوطء).
· يشهد لما ذكره أبو منصور ما أنشده الخليل في العين لمن لم يسمّه:
تَعبَّدَني نِمْرُ بن سعدٍ وقد أُرى ... ونمر بن سعدٍ لي مطيع ومُهْطعُ

· هذا تعريف لها باعتبار أصل معناها الملازم لها، واعتبار هذا المعنى مهم.
· والعبادة على نوعين: عبادة كونية، وعبادة شرعية.
- فأما العبادة الكونية فهذه عامة لجميع الخلق، كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]، وقال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 83].
- وأما العبادة الشرعية: فلها تعريفات ذكرها بعض أهل العلم، وقد سلكوا مسالك في التعريف.
- من أحسنها تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (العبودية)؛ إذ قال رحمه الله تعالى: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة).
* قوله: (من الأعمال والأقوال) هذا قيد يخرج الأشخاص والأمكنة والأزمنة التي يحبها الله فلا توصف بأنها عبادة، لأن العبادة تتعلق بما يتعبد به.
* تعريف شيخ الإسلام للعبادة حسن بديع، وهو وصف جامع مانع للعبادات الشرعية.
* وأما العبادات الشركية والبدعية فلا يشملها هذا التعريف لأن الله تعالى لا يحبها ولا يرضاها ولا يقبلها، وإن كانت داخلة في اسم العبادة لغة؛ لأن كلُّ ما يُتقرَّب به إلى المعبود فهو عبادة.
* قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: 1، 2]؛ فسمَّى ما يفعلونه عبادة، وقال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) رواه مسلم.
* العبادات الشركية والبدعية وإن كان يشملها اسم العبادة لغة وحقيقة من جهة كونها صادرة عن تذلل وخضوع للمعبود، لكنها عبادات باطلة عند الله؛ فمن عبد اللهَ عبادةً غير خالصة له فهي مردودة عليه، وكذلك من عبد الله بعبادة لم يأذن الله بها فهي مردودة عليه.
· تعريف شيخ الإسلام للعبادة تعريف بالحد الرسمي، وتعريف ابن جرير وأبي منصور تعريف لها بالحد الحقيقي.
· تعريف شيخ الإسلام باعتبار ما يشمله اسم العبادة مما شرع للعبد أن يتعبد به في شريعة الإسلام، وقول ابن جرير: (العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة) هذا بيان لما تكون به العبادة فهي لا تكون إلا بتذلل وخضوع.
· يصحب هذه الذلة في العبادات الشرعية التي أمر الله بها ثلاثة أمور: المحبة، والانقياد، والتعظيم.
· أما الأمر الأول: وهو المحبة العظيمة، فبيانه أن العبادة هي أعظم درجات المحبة.
- قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
- قال إبراهيم الصولي:
وهان عليَّ اللوم في جنب حبها ... وقـول الأعــادي إنه لـخليــعأصمُّ إذا نـوديـت باسمي وإنـني ... إذا قيل لي يا عـبدهـا لسميع

- وفي معناه ما ذكره القشيري وابن العربي وغيرهما عمّن لم يسمّوه:
يا قوم قلبي عند زهرائي ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بـ(يا عبدها) ... فـإنــه مـــن أشـــرف أسـمـائــي

- العابد مُحِبٌّ لمعبوده أشد المحبة؛ يقدِّم محبته على محبة النفس والأهل والولد والمال، لا يهنأ إلا بذكر محبوبه، ولا يأنس إلا بفعل ما يحبه، فذكره في قلبه ولسانه لا يكاد يكل ولا يمل من ذكره، بل يأنس بذكره في كل أحيانه، ويجتهد في كسب رضاه ومحبته، حتى لو بلغ الأمر به أن يضحي بنفسه في سبيله، وهذه المرتبة من المحبة لا يستحقها أحد غير الله عز وجل.
- إذا عظمت محبة الله في قلب العبد قادته إلى الاستقامة على طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهو يطيعه محبة له ورغبة ورهبة؛ كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)﴾ [آل عمران: 31، 32].
- هذه الآية يسميها العلماء آية الامتحان، فإن دعوى المحبة سهلة، ولكن صدقها يبين بهذا الامتحان وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
§ من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أثبت صدق محبته لله تعالى، وأحبه الله جل وعلا وأفاض عليه من فضله ورحمته وأول ذلك مغفرته لذنوبه التي هي سبب الشقاء والعذاب.
- ومحبة الله تورث في نفس المؤمن حلاوة وعزة ورفعة لا يجدها غيره أبداً، ذلك أن الله كتب العزة والرفعة والحياة الطيبة لعباده المؤمنين الذين يحبونه ويتولونه، وجعلَهَم حِزبَه وأولياءَه وأنصارَه وأتباعَه وعبادَه فأضافهم إليه إضافة تشريف وتكريم تقتضي لطفه بهم ومحبته وتوليه لهم، فـ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 257]، ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68]، فهو وليهم الذي يتولى أمورهم ويجيب دعاءهم ويقضي حوائجهم ويفرج كروبهم ويعينهم ويعيذهم ويغيثهم ويغفر لهم ويرحمهم ويحفظهم ويتقبل أعمالهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً.
- من كملت محبة الله في قلبه كملت طاعته واستقامته، ومن كملت طاعته لم يعذبه الله أبداً، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: 18]، فالمحبة تمنع العذاب.
* ولذلك قال الحسن البصري: (والله لا يعذب الله حبيبه في النار).
- إنما يقع العبد في الذنوب والمعاصي إذا ضعف إيمانه وقل يقينه، وضعف حبه لله وحبه لثوابه، حتى يؤثر اللذة الفانية على ثواب الله الباقي، فيقع في التقصير ويستحق من العذاب بقدر ما يعمل من المعاصي.
· الأمر الثاني: التعظيم والإجلال، فإن العابد معظِّمٌ لمعبوده أشد التعظيم، ومُجِلٌّ له غايةَ الإجلالِ، فالتعظيم من لوازم معنى العبادة.
- لفظ العبادة في اللغة فيه معنى التعظيم، كما قال حاتم الطائي:
وعاذلة هبَّت بليل تلومني ... وقد غاب عيُّوق الثريا فعرَّدا
تقول ألا تُبقي عليك فإنني ... أرى المال عند المُمْسِكين مُعَبَّدا

* قال أبو منصور الأزهري: (أي مُعَظَّماً مخدوماً).
- تعظيم شعائر الله وحرماته من آثار تعظيم المؤمن لربه جل وعلا، وإجلاله له.
- قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30] وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32].
- أَمَرَ الله بتعظيمه كما في قوله تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: 111] أي عظمه تعظيماً شديداً،وقوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج: 37] أي: تعظموه شكراً له على هدايته لكم.
- من تأمل أسماء الله الحسنى وتأمل آثارها في الخلق والأمر تبين له بعض معاني عظمة الله جل جلاله، وأورثه ذلك تعظيم أوامره ونواهيه، والحرص على أن يكون من أوليائه وحزبه المفلحين، واشتد كرهه لما يعرضه لمقت الله وسخطه.
· الأمر الثالث: الانقياد والخضوع والتذلل، يقال طريق معبَّد أي مذلَّل، فالعابد منقاد لمعبوده خاضع له.
- ذلّ العبد لله عز وجل وانقياده لطاعته هو عين سعادته، وسبيل عزته ورفعته.
- من ذلَّ لله رفعه الله وأعزه، ومن استكبر واستنكف أذله الله وأخزاه، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب، ويذله ويهينه.
- أعظم الخلق خشية لله وانقياداً لأوامره الأنبياء والملائكة والعلماء والصالحون، وهم أعظم الخلق عزة ورفعة وسعادة.
- وأعظم الخلق استكباراً واستنكافاً مردة الشياطين، والطغاة والظلمة، وهم أعظم الخلق ذلاً ومهانة.
· وهذه الأمور الثلاثة (المحبة والتعظيم والانقياد) مبنية على التذلل لله جل وعلا، وبها يتحقق معنى العبودية لله جل وعلا.

العبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح
· عبادة القلب جامعة لأمرين:
- 1: الاعتقاد وهو التصديق واليقين، ويسمّى قول القلب.
- 2: وعمل القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك من أعمال القلوب.
· وعبادة اللسان هي بقول ما يحبه الله من الذكر والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الأقوال التي يحبها الله.
· وعبادة الجوارح هي ما تقوم به جوارح الإنسان من أعمال التعبد كالصلاة والزكاة والصيام والحج والذبح والنذر وغيرها.
· العبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح.

طرق معرفة العبادة
· تعرف العبادة بإحدى ثلاث طرق:
- الطريق الأول: أن يرد في النصوص تسمية عمل من الأعمال أو قول من الأقوال بأنه عبادة؛ كما في حديث: (الدعاء هو العبادة).
- الطريق الثاني: أن يدل الدليل على أن الله تعالى يحبه، إما بترتيب الثواب على فعله، أو العقاب على تركه، أو بمدح فاعله وذم تاركه أو غير ذلك؛ فما يحبه الله ويرضاه فهو عبادة.
- الطريق الثالث: أن يدل الدليل على أن الله أمر به؛ فَأَمْرُ الله به دليل على أن الله يحبه فيكون عبادة.

شروط قبول العبادة
· لقبول العبادة شرطان:
- الشرط الأول: الإخلاص لله جل وعلا.
- والشرط الثاني: أن تكون هذه العبادة صواباً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
· بتحقيق هذين الشرطين: إخلاص العبادة لله عز وجل، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، يكون العبد من المسلمين الموعودين بدخول الجنة، ومن نقض شرطاً منهما فليس من أهل الإسلام والعياذ بالله.
· فالشرط الأول هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والشرط الثاني هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، ولا يصح إسلام عبد حتى يشهد هاتين الشهادتين.

2: العهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا
· مَن شهد أن لا إله إلا الله فقد عاهد الله أن يخلِص العبادة له وحده، وبهذا العهد يدخل في دين الإسلام، وقد علمت معنى العبادة فيما سبق.
· لذلك كانت (لا إله إلا الله) أعظم الحسنات، وأعلى شعب الإيمان، ومفتاح الجنة، وأفضل الذكر، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة.
· هذا العهد العظيم جزاءُ من وفّى به أن يدخله الله الجنة، ومن خان هذا العهد وغدر ونقضه أدخله الله النار.
· وهذا العهد الذي بين العبد وربه بالتوحيد وإخلاص العبادة له هو أعظم العهود، وأعظم الأمانات، وجزاؤه وثوابه أعظم الجزاء والثواب، وعقاب نقضه ونكثه أعظم العقاب.
· أحرص ما يكون الشيطان على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين ربه؛ ليحرمه ثواب الوفاء به ويوبقه في عذاب نقضه، فهو يوسوس له، ويعده ويمنيه، ليثبّطه عن الوفاء بهذا العهد العظيم.
· لا يزال الشيطان حريصاً على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين الله نقضاً تاماً، فينقض عهد الله من بعد ميثاقه؛ فيرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام ينقضه به هذا العهد فيموت العبد كافراً والعياذ بالله.
- هذه هي غاية الشيطان التي أقسم عليها كما بين الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبَّكَ وَكِيلًا (65) ﴾ [الإسراء: 61-65].
* من حقق العبودية لله تعالى لم يكن للشيطان عليه سلطان.
* معنى لأحتنكن: أي لأستولين عليهم ولأقودنَّهم إلى المعاصي كما يقود الرجل دابته فيلقي على حنكها حبلاً يحتنكها به ويقودها به إلى حيث يشاء.
· أعظم الخسران أن يبيع العبد هذا العهد بطاعة عدوّه وتصديق أمانيّه؛ فيحرم الثواب العظيم الذي جعله الله لمن وفّى بعهده وصدّق بوعده.
· قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) ﴾[يس: 60-64]
· كل عبادة لغير الله تعالى فهي عبادة للشيطان لأنها طاعة له في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله وأعظم ما حرم الله تعالى هو الشرك، سواء شعر الإنسان أنه يطيع الشيطان أو لم يشعر.
· وكل منفعة أو لذة يحصلها العبد بسبب نقضه لهذا العهد فهو ثمن قليل زائل ولو أعطي الدنيا بحذافيرها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ...﴾ [النحل: 95] الآيات
- ضمن الله لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات أعظم الثواب في الدنيا والآخرة ففي الدنيا لهم الحياة الطيبة التي لا أفضل منها، وفي الآخرة يجزيهم الله أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
· في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً:(( فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقُّ العباد على الله: أن لا يعذِّب مَن لا يشرِك به شيئا)).
· شأن هذا العهد عظيم، ولذلك شرع أن يجدده العبد في اليوم والليلة مراراً حتى لا ينساه أو يغفل عنه، وقد تضمنته الشهادتان، وهما يكرران في الأذان والإقامة وفي تشهد كل صلاة.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه التشهد في الصلاة كما يعلمهم السورة من القرآن.
- وهذا العهد تضمنه سيد الاستغفار الذي يستحب للعبد أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى ورُتِّبَ على الدعاء به الثوابَ العظيم.

3: درجات تحقيق العبودية لله تعالى
· إذا تبين لك ما سبق فاعلم أن تحقيق العبودية لله تعالى على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: الإتيان بأصل العبودية لله تعالى، وهو ما يبقى به المرء مسلماً، فيعبد الله وحده لا شريك له، ويجتنب عبادة غير الله جل وعلا، ويأتي من الفرائض ويجتنب من النواقض ما يبقى به إسلامه. فهذه درجة الإسلام.
- الدرجة الثانية: تحقيق الكمال الواجب في العبادة، وهذه مرتبة الإيمان، وهي درجة عباد الله المتقين.
- الدرجة الثالثة: تحقيق الكمال المستحب في العبادة، وهذه مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
· كل درجة من هذه الدرجات يتفاضل المسلمون فيها تفاضلاً كبيراً لا يحصيهم إلا من خلقهم.
· أما من أشرك بالله تعالى شيئاً فليس من أهل عبودية الله، وإنما هو من عباد الشيطان كما قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: 60]
· أصحاب الدرجة الأولى مسلمون موعودون بدخول الجنة وإن عذبوا قبل ذلك على بعض ما اقترفوه من الذنوب؛ فما معهم من التوحيد والإسلام مانع من الخلود في النار، وفي هذه الطبقة يكون أهل الكبائر من المسلمين.
· وأصحاب الدرجة الثانية هم المتقون الذين يجتنبون المحرمات ويؤدون الفرائض؛ فيؤدون حقوق العبادة الواجبة ويجتنبون الشرك الأصغر من الرياء وتعلق القلب بغير الله تعالى كالتعلق بالمال والرياسة والأشخاص وغيرهم فهذا كله قادح في تحقيق القدر الواجب من العبودية لله تعالى.
- من تعلق شيئاً دون الله وكل إليه، ومن أحب شيئاً من دون الله حتى يعصي الله بسببه عذب به، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( تعِسَ عَبدُ الدِّينار وعَبدُ الدرهم وعبد الخميصة إن أُعْطي رضِي وإن لم يُعطَ سخط تعِسَ وانتكَس وإذا شيك فلا انتقش)).
* هذا دعاء عليه من النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة، فكلما قام من سقطة وقع في أخرى، وإذا أصيب ببلاء لم يهتد للخروج منه، وسبب ذلك عبوديته للدنيا، وغفلته عن الله جل وعلا.
- إذا كان العبد همته للدنيا إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط ظل ساخطاً على قضاء الله وقدره متبرماً منه لم يكن قلبه سليماً لله جل وعلا بل فيه عبودية لغير الله.
- هذا أمر تشاهد آثاره فيمن تعلق قلبه بمال أو رئاسة أو شخص يحبه حتى يعصي الله لأجله؛ فيكون في قلبه رقّ لما أحبه وتعلّق به وعصى الله لأجله.
- قال ابن تيمية رحمه الله: (كلُّ مَن علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك).
· وقال أيضاً: (ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفا من مكروه فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر. قال تعالى في حق يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]). ا.هـ.
· إذا كان القلب أسيراً لشيء من هذه المحبوبات لم يكن خالصاً لله جل وعلا، ولم يأت صاحبه بالعبودية الواجبة، بل يكون في قلبه ذلٌّ لها مصحوب بخوف ورجاء وهذا هو معنى العبادة التي يجب إخلاصها لله جل وعلا،ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً للمال، وإن كانت هذه العبودية ليست تامة بحيث تفضي به إلى الشرك الأكبر إلا من بلغت به عبوديته للدنيا أن يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام والعياذ بالله.
· هذا الذل يختلف عن الذل الذي أمر الله به ومدحه كما في قوله تعالى في شأن الوالدين: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]، وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: 54]، فهذه ذلة مصحوبة بالرحمة وقصد الإحسان إلى المتذلل له فليس فيها ما يقدح في العبودية لله جل وعلا، بخلاف عبودية الدنيا المحرمة فإنها ذل في القلب مصحوب بخوف ورجاء مع غفلة القلب عن التعلق بالله جل وعلا.
· من كان قلبه مؤمناً بالله سليماً له جلّ وعلا علم أن ما يصيبه خير له، ولم يأس على ما فاته لإحسانه ظنه بالله، فلذلك لا يشقى؛ وأما من ضعف يقينه بالله ولم يتبع هداه فإنه يشقى بمطلوبه وإن تحقق له، ويكون فتنة له.
· قاعدة مهمة فيما يبتلى به المؤمن، وهي: أن كل بلاء يبتلى به المؤمن يصاحبه أمران:
- الأمر الأول: بيان الهدى فيما يجب على العبد أن يتقيه ويتجنَّبه، وما يحبه الله لعبده وينجيه به مما يخاف منه، وذلك أن العبد إذا ابتلي كان معرّضاً لفعل الصواب والخطأ؛ فإن أصاب فهو مهتدٍ، وإن أخطأ فقد ضل، وتختلف درجة الضلال بحسب درجة المخالفة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 115].
* قال الشافعي رحمه الله: (فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها).
- الأمر الثاني: اللطف والتيسير، وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسر يسرين، وأول التيسير أن يعلم أنه لا ينزل بعبد مؤمن بلاء إلا كان بعده فرج فهذا اليقين المعتمد على حسن الظن بالله جل وعلا والتصديق بوعده ورجائه عبادة عظيمة من أجل العبادات وهو في هذا يدافع وساوس الشيطان وما يلقيه في نفسه من الخواطر الرديئة والتيئيس من رحمة الله والتشكيك في صدق وعده؛ فيكون المؤمن في حال ابتلائه مجاهداً صابراً راجياً ربه جل وعلا.
* روى الإمام مالك في الموطأ وابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير في تفسيره وغيرهم عن زيد بن أسلم أنه قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر بن الخطاب: (أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وأنه لن يغلب عسر يسرين وأن الله تعالى يقول في كتابه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]).
وقال الشاعر:وكل شديدة نزلت بحي ... سيأتي بعد شدتها رخاء
- من تأمل أوجه اللطف فيما يتعرض له من البلاء علم حقيقة هذا الأمر.
· بهذا يعلم المؤمن أن كل قضاء يقضيه الله له فهو خير له، وليس ذلك إلا للمؤمن والله تعالى عليم حكيم في قضائه وقدره وتدبيره، وفي صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
- تأمل قول الله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51] ولم يقل (علينا) وفي هذا دليل على أن كل ما يصيب المؤمن فهو له وليس عليه، وذلك إذا اتبع هدى الله، أما إذا خالف هدى الله فإنه يستحق من العقوبة بقدر ما خالف وضعف إيمانه.
- بذلك يعلم المؤمن أن كماله وهدايته وأنسه وأمنه إنما هو في اتباع هدى الله جل وعلا فإنه حينئذ يكون ولياً من أولياء الله فيتولى الله أموره ويرشده إلى ما ينفعه ويوفقه لفضله العظيم كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257].
· الدرجة الثالثة: تحقيق الكمال المستحب في العبادة، وهذه مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
- هذا يحملك على أن يكون حبك لله ولما يحبه الله، وبغضك لما يبغضه الله ولما يبعدك عن الله، وينبني على ذلك تعظيم ما عظمه الله، وتحقير ما حقره الله.
- في سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن أحبَّ لله وأبغَض لله وأعْطَى لله ومنَعَ لله فقد اسْتكمَل الإيمان)).
- العطاء والمنع في الحديث لا يختص بالمال بل هو عام في كل ما يُعطى ويمنعُ من مال وعلم وجاه وجهد ووقت، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
- من عمل بهذا الحديث فقد أسلم قصده لله تعالى واستمسك بالعروة الوثقى التي لا أوثق منها، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 22].
* (الوثقى) صيغة مبالغة، يقال: عروة وثيقة أي شديدة متينة مأمونة، وعروة أوثق من عروة، والعروة الوثقى أي التي لا أوثق منها.
* العروة هي ما يستمسك به للنجاة؛ فإذا كانت العروة وثقى، والاستمساك قوياً نجا العبد مما يخاف.

4: العبادة الكونية والعبادة الشرعية
· ذكرنا أن العبادة على نوعين: عبادة متعلقة بالربوبية وعبادة متعلقة بالألوهية.
- فأما العبادة المتعلقة بالربوبية فهي عامة لجميع الخلق لا يخرج منهم أحد عنها كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) ﴾ [مريم: 93-95]، وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 18]؛ فهذه هي العبادة الكونية لا يخرج منها برٌّ ولا فاجر.
- وأما العبادة الشرعية فهي الفارقة بين المسلمين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، وهي إخلاص العبادة لله جل وعلا وامتثال أمره واجتناب نهيه.
- العبادة المتعلقة بالربوبية من الإقرار بخلق الله تعالى وملكه وتدبيره وشهود الفقر إلى الله تعالى، لا تفرق بين المؤمن والكافر وأهل الجنة والنار، لأن العبد قد يعرف ذلك ويعصي الله ويعبد غير الله كما فعل المشركون.
- شهود مشهد الربوبية لا يدخل العبد في الإسلام ولا يقتضي الإخلاص في العبادة، وإن كان حجة في وجوبه لكن لا يقتضي أن يقوم العبد به.
- قال الله تعالى في المشركين: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 31، 32].
- مشركو العرب كانوا يقرون بوجود الله تعالى وأنه هو الخالق الرازق المدبر لأمورهم ومع هذا لم يكونوا مسلمين لأنهم لم يتقوا الله تعالى ولم يفردوه بالعبادة، والتوحيد هو أصل التقوى.
- المعرفة التي لا يترتب عليها امتثال الأمر حجة على صاحبها وعذاب عليه، وهي من شأن أهل الجحود والاستكبار والإعراض، كما قال الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] وقال: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[الأنعام: 33].
· المخالفون في العبودية الشرعية على درجتين:
- الدرجة الأولى: المشركون الذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى، فلم يمتثلوا أمره في أعظم ما أمر به، فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام.
- الدرجة الثانية: المبتدعة الضلال الذين غلَّبوا جانب التعبد لله بالتفكر في أفعاله وخلقه حتى ضيعوا بعض الفرائض وارتكبوا بعض المحرمات، كما يفعله بعض المتصوفة.
* بعض غلاة المتصوفة قد يصل به الأمر إلى تضييع الأوامر جملة حتى يخرج من دين الإسلام والعياذ بالله.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر الله به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار؛ فإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أشر أهل الكفر والإلحاد).
* هؤلاء الذين زعموا أنهم وصلوا إلى درجة اليقين وأن التكاليف قد سقطت عنهم كفار مرتدون خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
- من مداخل الشيطان على بعض الناس أن يصرف همتهم عن أداء الفرائض واجتناب المحرمات إلى التفكر فيما يتثبتون به وحدانية الله تعالى وأنه هو الخالق الرازق المدبر للأمر ويظنون أنهم إذا أتوا بهذا الأمر فقد أبلوا بلاء حسنا يعفى به عن تقصيرهم وتفريطهم في أداء الفرائض.
- لذلك تجد بعض من خدع بهذه الخديعة من المسلمين يعظم بحوث من أوتي ظاهراً من العلم فيما يثبتون به شيئاً من آثار ربوبية الله تعالى وسعة علمه وحكمته وتدبيره ويظل يتتبعها ويفني وقته وجهده في التنقيب عنها بل ربما زاد بعضهم عليها بعض الأكاذيب والتهويلات والتلفيقات ليخرجوا للناس بشيء يزعمون أنه جديد لم يسبقوا إليه في دلائل إثبات وحدانية الله تعالى في خلقه وملكه وتدبيره، وهذا خطأ ينبغي التنبيه عليه.
- لا خلاف في أن المؤمن مأمور بالتفكر في آيات الله ومخلوقاته بما يحمله على التقوى وامتثال الأمر واجتناب النهي أما إذا كان تفكره للتعجب والتأمل المجرد الذي لا ينبني عليه عمل فلا يمتثل الأمر ولا يجتنب النهي فتفكره حجّة عليه وعذاب عليه -والعياذ بالله - وإنْ صاحَبه إقرار بوحدانية الله تعالى في خلقه وملكه وتدبيره.

5: بيان وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة.
· إفراد الله تعالى بالعبادة هو حقيقة التوحيد الذي خُلقنا لأجله.
· قول الله تعالى: ﴿وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56] فيه بيان العلّة الشرعية من خلق الجنّ والإنس التي عليها مدار الثواب والعقاب والأمر والنهي، وقوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ [هود: 118] بيان للعلّة الكونية القدرية التي هي مقتضى حكمته جلّ وعلا، وفيها أن الاختلاف عذاب.
· توعّد الله تعالى من أشرك معه أحداً في عبادته بالخلود في النار وأن لا يغفر له شركه دليل على شدة وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة.
· وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة هو مقتضى الشرع والعقل والعدل؛ فالله تعالى هو الخالق الرازق وهو الملك المدبّر فعبادة غيره ظلم عظيم وسفَه وضلال كبير.

شرح عبارات المتن

قوله: (وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى).
· ذكر الشيخ رحمه الله أصول العبادات وأهم أنواعها، وبَيَّن أن هذه العبادات يجب إفراد الله تعالى بها، وأن مَن صرَف شيئاً منها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر والعياذ بالله.
قوله: (وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ).
· هذه مراتب الدين، وقد تبيّن مما سبق أن درجات تحقيق العبودية لله تعالى مرتّبة على مراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان.
قوله: (وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى).
· هذه العبادات يتفاضل المسلمون في تحقيقها على درجات العبودية لله تعالى فمسلم ومؤمن ومحسن.
- من أداها مخلصاً لله تعالى ولم يشرك مع الله فيها أحداً فهو مسلم.
- ومن أداها مخلصاً لله تعالى مكملاً واجباتها مجتنباً الشرك الأصغر فيها فهو مؤمن.
- ومن أداها على الكمال المستحب فهو محسن، نسأل الله من فضله.
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾[الجن: 18]).
· هذا دليل على تحريم دعاء غير الله تعالى دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
· تقدّم تفسير هذه الآية في درس سابق.
قوله:(فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون: 117]).
· هذه الآية فيها وصف من دعا غير الله بأنه كافر.
وقوله ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ﴾ هذا وصف كاشف للعلة اللازمة لكل ما يعبد من دون الله تعالى وهو أنه لا برهان لأحد بأن الله تعالى قد أذن بعبادة إله من دونه.